كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حريصًا على شباب أمَّته، ليسيروا على المنهاج الصَّحيح؛ الذي يوافق شرع الله، وسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولذا كان صلَّى الله عليه وسلَّم ينبِّه الشَّباب، على الأخطاء التي يقعون فيها، أو يحتمل وقوعهم فيها قبل حصولها. ولقد كانت له صلَّى الله عليه وسلَّم طريقة فريدة من نوعها، في معالجة الأخطاء. وإليك بيانها:
أولًا: التَّلميح دون التَّصريح:
كان صلَّى الله عليه وسلَّم، يُشهِّر بالخطأ ويذمُّه، ولا يُشهِّر بصاحب الخطأ، ولذلك لم يكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يواجه شباب أمَّته بالخطأ أمام النَّاس؛ لأن ذلك يؤدِّي إلى تحطيم شخصيَّة المخطئ، وإذلال نفسيَّته.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: رخَّص رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أمر، فتنزَّه عنه ناس من النَّاس؛ فبلغ ذلك النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فغضب، حتَّى بان الغضب في وجهه، ثمَّ قال: «ما بال أقوام يرغبون عمَّا رُخِّص لي فيه، فو الله لأنا أعلمهم بالله، وأشدُّهم له خشية» متفق عليه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: إنَّ نفرًا من أصحاب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، سألوا أزواج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن عمله في السِّرِّ؟. فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله، وأثنى عليه، فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟! لكنِّي أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النِّساء، فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي» رواه مسلم.
من خلال الحديثين الشَّريفين، نلاحظ منهجه صلَّى الله عليه وسلَّم، في استخدامه أسلوب التَّلميح، ومجافاته لأسلوب التَّصريح، في معالجته لأخطاء من يُربِّي، حتَّى لا تتأثر نفسيَّته، وتحدث أمور عكسيَّة؛ ليست في الحسبان، فقد تؤدِّي إلى إثارة الشُّكوك، وحصول الضَّغينة والبغضاء، وظهور العداوة والخلاف.
وما أحسن قول الشَّافعي رحمه الله:
تغمَّدني بنصحك على انفراد *** وجنِّبني النَّصيحة في الجماعه
فإنَّ النَّصح بين النَّاس نـــــــــــوعٌ *** من التَّوبيخ لا أرضى استماعه
ومواقف الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، في هذا الجانب كثيرة، فلا يخفى على الكثير خطابه صلَّى الله عليه وسلَّم، في كثير من أحاديثه، حيث يقول: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجُمُعات» رواه مسلم. «ما بال رجال يتأخَّرون بعد النِّداء» رواه مسلم. «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء» رواه البخاري. وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم في حقِّ ابن اللتبية: «ما بال عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أُهدي إليَّ» رواه مسلم. وذلك عندما استعمله النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الصَّدقة، فلمَّا قدم قال: هذا لكم، وهذا أُهدي إليَّ.
ثانيًا: الإيحاء بالغضب:
كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لا يواجه المخطئ بفعله أحيانًا، ولكنَّه!! يغضب لذلك، فيعرف في وجهه، فعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه، قال: كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أشدُّ حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه، عرفناه في وجهه متفق عليه.
وروت عائشة رضي الله عنها: أنَّها اشترت نُمْرُقَةً، فيها تصاوير، فلمَّا رآها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قام على الباب؛ فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت: يا رسول الله!! أتوب إلى الله، وإلى رسوله، فماذا أذنبْتُ؟ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما بال هذه النُّمْرُقَةِ». قالت: اشتريتها لك تقعد عليها، وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أصحاب هذه الصُّور يوم القيامة يعذَّبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم، ثمَّ قال: إنَّ البيت الذي فيه الصُّور، لا تدخله الملائكة» متفق عليه.
ثالثًا: الإقناع بالخطأ:
لقد انتهج الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، أسلوبًا رفيعًا في تعليمه للشَّباب، وتقويم أخطائهم، ومن ذلك: عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إنَّ فتىً شابًّا أتى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا رسول الله!! ائذن لي بالزِّنا؛ فأقبل القوم عليه؛ فزجروه، وقالوا: مه.... مه!. فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ادن». فدنا منه قريبًا. قال: فجلس. قال: «أتحبه لأمِّك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: «ولا النَّاس يحبُّونه لأمَّهاتهم». قال: «أفتحبُّه لابنتك؟» قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: «ولا النَّاس يحبُّونه لبناتهم». قال: «أتحبُّه لأختك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: «ولا النَّاس يحبُّونه لأخواتهم». قال: «أفتحبُّه لعمتك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: «ولا النَّاس يحبُّونه لعمَّاتهم». قال: «أفتحبُّه لخالتك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: «ولا النَّاس يحبُّونه لخالاتهم». قال: فوضع يده على صدره، وقال: «اللهمَّ اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه، فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء» رواه البخاري.
فهذا شابٌّ عارم الشَّهوة، ثائر الغريزة، صريح في التَّعبير عن نزواته، فلقيه الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، بهذا الرِّفق العجيب، والحوار الهادئ، فقام ذلك الفتى مقتنعًا بخطئه، عازمًا على عدم الالتفات إليه.
رابعًا: الإشعار بعظِم الخطأ:
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إلى الحرقة من جهينة؛ فصبَّحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتَّى قتلته، قال: فلمَّا قدمنا بلغ ذلك النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!» قال: قلت: يا رسول الله، إنَّما كان متعوِّذًا، قال: فقال: «أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!» قال: فما زال يكرِّرها عليَّ، حتَّى تمنيت أنِّي لم أكن أسلمت، قبل ذلك اليوم. رواه البخاري.
ولما أرسل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعض السَّرايا، بعد فتح مكَّة، يدعون النَّاس للإسلام، ولم يأمرهم بالقتل، وبعث خالد على رأس سريَّة داعيًا، ولم يأمره بالقتال، فوصل إلى بني جذيمة، فوضعوا السِّلاح، فأمر بهم خالد؛ فكُتِّفوا، ثم عرضوا على السَّيف، فقُتل منهم من قُتل، فلمَّا انتهى الخبر إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، رفع يديه إلى السَّماء وقال: «اللهمَّ إنِّي أبرأ إليك؛ ممَّا صنع خالد» رواه البخاري.
فقد أخطأ خالد رضي الله عنه في اجتهاده، فيما أقدم عليه، فكان تبرُّؤ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم من فعل خالد رضي الله عنه، مشعِرًا بعظم الخطأ؛ الذي وقع فيه خالد.
أختم مقالي بهذه الكلمات:
لقد انتصر محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يوم أن صاغ من فكرة الإسلام شخوصًا، ثمَّ حوَّل إيمانهم بالإسلام عملًا، ثمَّ نسخ من المصحف عشرات النُّسخ.. بل مئات.. بل ألوف.. ولكنَّه!! لم ينسْخها بمداد من الحبر، على صفحات الورق، وإنَّما نسخها بمداد من النُّور، على صفحات القلوب، ثمَّ تركهم يتعاملون مع النَّاس.. فيأخذون ويعطون..
فيراهم النَّاس.. فيرون الإسلام من خلالهم، هؤلاء هم أصحاب النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، الذين ربَّاهم على يديه، ونشَّأهم على عينه، والحقيقة هي معجزة، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، في فترة وجيزة، في عُمُر الزَّمان، استطاع أن يحوِّل هؤلاء النَّاس البُسطاء، من رعاة للغنم، إلى قادة وسادة للأمم.
الكاتب: سعد العثمان.
المصدر: موقع المسلم.